رافد الغناء في اليمن وتواشج أبنائه

من قنبوس موسوعة التراث

لم يزل موضوعُ الغناء في اليمن أمرًا محاطًا بفجواتٍ تاريخيّةٍ تجعل تفاصيلَه وتسلسلَه الزمنيَّ محلَّ خلافٍ بين الباحثين، وإنْ كان قِدمُ الغناء فيه أمرًا متَّفقًا عليه.[1]


يتصدَّر شعرُ الغناء الصنعانيّ المواردَ التي أثْرت الغناءَ اليمنيّ. ويقدِّر المؤرِّخون عودتَه إلى خمسمائة سنة على الأقلّ، أيْ معاصرتَه أواخرَ الدولة الرسوليَّة، التي عمل فيها ابنُ فليتة كاتبًا ووُثِّقتْ له قصائدُ حمينيّة. تبعه المزاحُ وشعراءُ التصوّف، كالعيدروس والعلويّ، وصولًا إلى محمد بن شرف الدين، الذي انشغل (خلافًا لأسرته المالكة وقتها) بالحبّ والطبيعة، ويُعتبر أجزلَ مَن أثرى الشعرَ الحمينيّ بقصائدَ تُغنّى إلى اليوم.

ظهر شعرُ الغناء الصنعانيّ بفرعَيه، الفصيح (الحكَميِّ) والملحون (الحمينيّ)، في ما سُمّي "عصر الانحطاط." أخذ الحمينيُّ من سِمات شعر ذلك العصر، إذ عُني بتنميق اللغة والمحسِّنات البديعيّة بمقدارٍ يخدمُ الوزنَ والتناغمَ مع الموسيقى. فقد انبعث من حاجة اليمنيّ إلى التعبير العذب الألِق، من دون فقدان الإيقاع أو النسق الصوتيّ الذي يتجاوز القياس - - وهو ما يسري إلى القلب من دون أنْ يدري كيف ارتوى.

والحمينيّ، بمفهومه الواسع الذي يشمل اليمن، هو أسلوبٌ شعريٌّ خاصّ تُستخدمُ فيه لغةٌ ليست بالفصيحة المحكَمَة، شأن الحكميّ الذي يلتزم بمفردات اللغة الفصيحة وقواعدِها وعروضِها، ولا بالعامّيّة المحضة. فالتراكيب الفصيحة موجودة فيه بتفاوت، حتى إنّ بعضَه يكاد لا يُميَّز من الفصيح سوى بتسكين ما يجب تحريكُه تبعًا للإعراب. وهو بهذا يجعل الأوزان أكثر مرونة وتآلفًا مع الموسيقى. ومن الأمثلة على ذلك قولُ الشاعر: "رسولي قُوْم بلّغ لي إشارة/ إلى المليحْ الحالي الزين" حيث أُبقي على التسكين في كلمة "قُوْم" عوضًا من صيغتها المتحرِّكة في الفصيح بحذف حرف العلّة الساكن ولفظ الضم ("قُمْ")، وكذلك "المليحْ" عوضًا من "المليحِ."

أمّا موضوعاته فتتراوح بين الحبّ الحسّيّ والتشبّب، إضافةً إلى الحبّ الروحيّ والابتهال الدينيّ. وهو في عمومه شعرٌ مشبعٌ بالرقّة ورهفِ الوصف، يخاطب الطيرَ والأنسام، شاكيًا الجوى، ويخاطب المحبوبةَ أو الرسولَ بينهما. وكي نسبر جمالًا كهذا، ما علينا سوى التمعّن في أبيات الحسين الكوكباني مثلًا:

ما أصنعْ بنفسي وكفّ الحبّ مالك عناني

من قادهْ الحب ذلْ

لو يحملْ الحبّ رضوى أو جبل كوكبانِ

لذاب ذوب العسلْ

فكيف يقدر على حمل الهوى جسم فاني

والجهدْ ما يحتملْ؟!


وقول الفسيل:

يا فوج الأسحار علمك من القلبْ أين سارْ؟

أو عندك أخبار أينْ ساقت القلب الأقدارْ؟


وقول العيدروس:

في العقيق المنى قد تباعدْ عنَّا

والجفا شفْـا وجُسَيْمي مضنى

ربّنا لُفّنا مثلما قد كُنّا

منيةٌ يا لها لو تجودْ الأزمانْ


ومن الابتهال الجميل للحسين الهبل:

يا قلبيَ المُضْنى عليشْ ترتاب؟ ثِقْ بالذي للمشكلات حلّا

والزمْ بحبل الله ربّ الأربابْ وافلت يد المخلوق لا تملّا[2]


يُعتبر الغناءُ الصنعانيّ وشعرُه رديفًا للأصالة والنقاء، وذلك لكونه استطاع الحفاظَ على صورتِه الأصيلة ومقاومتِه التأثيرَ الأجنبيَّ. وعلى الرغم من الإشارات إلى تأثّر الغناء اليمنيّ بالموسيقى العسكريّة التركيّة المستخدمة في المارشات، وربما محاولات الحثِّ على استخدام الألحان التركيّة (كما حدث من قِبل معلّم الموسيقى التركيّ إبراهيم راسم في لحج)، فقد اتُّفِقَ على ضآلة هذا التأثير عند الدارسين، وذلك لتمايز الألحان اليمنيّة عن التركيّة. وقد يعكس الأمرُ انغلاقًا فُرض على اليمنيين نتيجةً للأوضاع السياسيّة. يضاف إلى ذلك شحُّ وسائل الاتصال، وصعوبة التنقل بسبب التضاريس الوعرة بين المحافظات، بل بين القرى في المنطقة الواحدة.

ومن هنا يبرز مشكلُ حصر التراث الحمينيّ، ولا سيّما الحديث، في ما استُخدم في الغناء الصنعانيّ صرفًا. فصنعاء محلُّ إلهامه وانبعاثه لا محالة، لكنَّ تطوُّره وانتشاره كانا نتيجةً لتواشج عميق بين اليمن وأبنائها، ولهجراتٍ داخليّةٍ أتاحت لهذا الفنّ العظيم الامتدادَ، فتجلّى في أداء أمثال الآتية أسماؤهم:

- علي أبو بكر باشراحيل، الذي عُرف بإتقانه هذا اللون الغنائيّ، حيث المخارجُ المضبوطة، والأداءُ الموشَّى بعبق حضرموت - - وهو ما تجلّى فيما بعد في أداء كلٍّ من بلفقيه والحدّاد.

- إبراهيم الماس، صاحب الصوت الشجيّ، وابن عدن الذي تربّى في حنايا كريتر بعد حضور والده من شبام كوكبان. وتبعه أمثالُ المبدع ابن الشيخ عثمان، محمد مرشد ناجي.

أضف إلى ما سبق عزفَ العود القديم (القنبوس أو الطربيّ) باتقانٍ من قبل أبناء لحج، كما عند الفنّانِين: هادي سبيت النوبي، وصالح الظاهري، وفضل محمد جبلي اللحجي، وذلك قبل أن يصير للحج لونُها الخاصُّ الذي أسّسه القمندان.

ولم يعنِ ذلك خلوَّ لحج من الفنِّ والأجواءِ المواتيةِ له، ديدن اليمن مدنًا وريفًا، بقدر ما كانت الأنغامُ والدندناتُ من التراث السائد ممتزجةً مع ما أحضره القادمون إليها، كرقصة "الدمندم" من حضرموت، وإيقاعاتِ "الدحيف" من أبين وسواحلها.

وقد هيّأ هذا التآلفُ التلقائيُّ في لحج، إضافةً إلى قربها من عدن، ميناءِ اليمن، تولّدَ توليفةٍ زاخرةٍ من الفنّانين، تداولت الأغنياتِ الحمينيّةَ الصنعانيّةَ وغيرَها من الألوان، لتكوّن لوحةَ فسيفساء متألّقة.


تبع الأوَّلين، بعد ترسيخ القمندان دعائمَ اللون اللحجيّ، فنّانون برعوا في الشعر والتلحين مثل: الشاعر القامة عبد الله هادي سبيت، صاحب أغنية "سألت العين،" ومحمد سعد عبد الله، وفيصل علوي.

وفيما يلي بعض الأغنيات على سبيل توضيح أبعاد اللهجة والأداء للأغنية الصنعانيّة:


- قصيدة "وا مغرد" لعلي بن محمد العنسي، ويكاد يكون أداؤها مسطرةَ إتقانٍ يقاس بها الفنّانُ اليمنيّ. غنّاها كثيرون، أبرزُهم العملاقان علي ابن علي الآنسي وأبو بكر سالم بلفقيه. وهنا أداء محمد مرشد ناجي المتألّق أيضًا:

- قصيدة "أحبّة ربا صنعاء" لشاعر مجهول. غنّاها كثيرون أيضًا، أبرزُهم محمد الحارثي وأبو بكر سالم. وهي هنا بأداء الجميل ابن عدن، وكوكبان إبراهيم الماس.


- قصيدة "يقرب الله" لأحمد بن حسين المفتي، بأداء أحد قناديل الغناء اللحجي، محمد سعد عبد الله:


- قصيدة "صادت فؤادي" لمحمد بن عبد الله شريف الدين، بأداء عبد الرحمن الحداد، الشجيّ الصوت:


إنّ ما يميّز الغناءَ اليمنيَّ هو ارتكازُه على حلاوة الكلمة، وأداء الفنّان، وبساطة الآلة. وهذا يعزِّز الشعرَ في الفؤاد ويملأه بمعنًى جليلٍ، يسطع فيه اليمنُ الذي نحبُّ. وهذا ما جعله، ككلِّ شيء مرتبطٍ بهذه الأرض، باقيًا على أصالةٍ دافئةٍ قد لا تتأتّى في أفخم الأجواء.


[1] محمد مرشد ناجي، الغناء اليمني القديم ومشاهيره (عدن: مطبعة الجماهير، ط1، 1959)، ص 30.

[2] أخذت القصائد من: محمد عبده غانم، شعر الغناء الصنعانيّ (بيروت: دار العودة، ط 5، 1987).

مراجع إضافية: جان لامبير، ترجمة علي محمد زيد، طبّ النفوس: فنّ الغناء في صنعاء (صنعاء: الهيئة العامّة للكتاب، ط 1، 2012)؛ عبدالقادر قائد، قراءة موسيقية في نشوء وتطوّر الأغنية اللحجيّة (صنعاء: دار الكتب اليمنيّة، ط 1، 2013).

بواسطة: منال الشريفي عن مجلة الآداب