عندما يكون الراتب حضرميا

من قنبوس موسوعة التراث
مراجعة ١٢:٢٢، ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٢ بواسطة LoayAmin (نقاش | مساهمات) (٦ مراجعات)
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

في فترة زمنية شُغفت الروح الحضرمية بالصوفية وإن لم تدرك المسمى بعد، فتجاوزت هذه النسائم السماوية من يحتكرها لأغراض شخصية واجتماعية تعود عليه بالنفع في كل المجالات، وتجلّت، وكان الراتب إحدى هذه التجليات، فدخل عددًا من البيوت الحضرمية، وتداولتهُ أسر لا تنتمي لما يسمى بـ "السادة" في حضرموت وإن كانوا هم نواة الصوفية في البلاد، وأول أمواجها التي جرفت ولا زال لجرفها آثار على المجتمع في الداخل والمهجر. إلا أن الراتب كان مختلفًا عن كل ما له صلة بما ابتدعوه.

جذور الصوفية في حضرموت

كان لحضرموت جُلّ النصيب -إن لم يكن كله- في التصوف ضمن موقعها الجغرافي المرتبط بشبه الجزيرة العربية، بل وظهرت فيها طرق وأعلام صوفية؛ يعود هذا الوجود وما تلاهُ من ترسخ لعدة أسباب، نذكر منها ما يلي: يمكن اصطلاح "سبب الأسباب" على قدوم العلويين الذين ينتسبون إلى علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر بن عيسى، والذي ينتهي نسبه إلى الحسين ابن علي بن أبي طالب -كرّم الله وجهه- من العراق (البصرة) إلى حضرموت، فاستقرّ في الهجرين إحدى قرى مديرية حريضة، ولمّا كان مذهب الإباضية إحدى المذاهب الشائعة في حضرموت -بجانب الشافعية-، منعَ ذلك المهاجر من الاستقرار في المدن الكبرى، كشبام وتريم، كونهما كانتا تزخران بعلماء الإباضية وذوي الرأي والقوة منهم، فنتج عن ذلك اختياره القرى التي يستطيع من خلالها خلق أنصار وحاضنة شعبية له، فكانت الجبل في دوعن ثم الهجرين. أما فيما بعد فاتخذت الصوفية من تريم مركزًا لها، ويكثر التواجد الصوفي داخل حضرموت في الداخل (الوادي)، أكثر من المناطق الساحلية. وشكلت هذه المرحلة منعطفًا مهما في التاريخ الحضرمي بجوانبه المختلفة، لعلّ أبرزها: الدينية، والاجتماعية، والسياسية. وأدى هذا السبب لإيجاد التصوف وترسيخه بشكل متجذر، فرافق الحضارم في مهجرهم وشتاتِهم.


نضيف إلى ذلك، وجود اتصال مع صوفية البلدان الأخرى، حيث جاء وفد أبي مدين المغربي الشاذلي إلى حضرموت بهدف نشر التصوف.

ولم تكن حضرموت بمعزل عن جغرافيتها، وبالتالي بمعزل عن اليمن، والتي بدورها قدِم إليها التصوف قبل حضرموت، فكانت الزيارات متبادلة بين رؤوس الجانبين، من ذلك: زيارة الصوفي الكبير قطب الدين مزاحم بن أحمد بامازاحم (باجابر) إلى مدينة زبيد بهدف الاجتماع مع الصوفي الكبير إسماعيل الجبرتي والذي بدوره كان متأثرًا بمدرسة ابن عربي الصوفي. وقد زار كبير صوفية أبين ولحج سفيان بن عبد الله الأبيني اليمني حضرموت، والتقى بعلمائها، فأخذوا عنه، وأخذ عنهم.



وفي المجمل فإن حضرموت كانت تمر بحوادث داخلية أدت لنشوء العامل الذي قال عنه البردّوني: "لأن الفراغ اشتهى الامتلاء"، أو كما قيل: "فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا"، ويندرج تحته كل من الحروب القبلية وانعكاساتها السلبية كالانقسامات، وتعدد الدول على حضرموت، وبالتالي عدم الاستقرار كنتيجة حتمية لهذه الفوضى، فربما وجدوا في هذه الروح ضالتهم، وجاء في كتاب جواهر تاريخ الأحقاف للعلامة محمد بن علي باحنّان وصفٌ لتلك المرحلة نذكر منه: "فكانت العشائر الوطنية والمهاجمة يتقاتلون ويتناهبون، ويخرج بعضهم بعضًا من دياره ويغزوه إلى عقر داره، فانتشر البغي والفساد، وعمّ الضرر والهلاك جميع البلاد". وأيضًا عامل الجهل الذي أسهم في تمرير كل الخرافات التي ابتدعوها فرفعوا بها من شأنهم وحطوا من شأن كافة الطبقات الحضرمية، فظهر التصوف في هذه الحالة كملجئ للهروب من ذلك الواقع، ولكنه لم يكن ملجأّ بل صار سكنًا!

بهذه الأسباب وغيرها ترسخت الصوفية في حضرموت، فلم تعد حكرًا على من كان سببا في قدومها بل جالت وصالت مع الحضارم في سكونهم وترحالهم، وفي دينهم وأخلاقهم، وحتى فيما يتعلق بسياستهم، حيث تمكنت من إدخال معتقد السِلم في كل أمورهم، والميل عن النزاعات حتى لو ضر ذلك بهم. شيء كالزهد، ولا زهد في السياسة! وقد يدل ذلك على مدى تعمق هذه الطبقة التي تدعى "السادة" في المجتمع، وامتداد سلطتها وتشعبها في كل مجال. ويمكن إنهاء هذا المحور بوصف صالح الحامد مؤلف كتاب تاريخ حضرموت لهذه العلاقة المتأصلة بين الإنسان الحضرمي والصوفية، والانعكاسات التي لحقت بالتاريخ الحضرمي وبالحركة التدوينية فيه بجملة وافية، قال فيها: "ولا أستبعد أن للروح الصوفية عملها البارز في صرف العلماء والمتنورين من رجال الماضي عن الاهتمام بالتاريخ، ومن صرف بعض الوقت في تدوينه فقد غمرت الموجة الصوفية الكافة من العلماء والمتنورين".


الراتب وأصل التسمية

يمكن أن نعرّف الراتب من خلال ذاته؛ فهو ذكر للهِ تعالى يترنم به الكبار بعد الصلاة في روحانية فريدة، يجمع بين قراءة القرآن الكريم والدعاء والرجاء، ولأن هذا الأسلوب كان نتيجة للصوفية في حضرموت والتي جاءت للسكان من السادة، فقد ارتبط الراتب بالسادة، وكان لبعض الأسر راتب باسمهم، كراتب الحداد، وراتب العطاس، وللراتب أسماء أخرى، منها: الوِرد اللطيف، والحصن الحصين، وعزيز المنال، وفتح باب الوصال. أما التسمية فقد جاءت من معنى الترتيب؛ حيث هدفوا من خلاله لوضع ترتيب محدد للأدعية والأذكار.



كنتُ لا زلت طفلة، وتتسم ذاكرتي بنسيان جل الطفولة، لكن ربما لسبب أجهله لا زلت أحتفظ بذكرى "حبابا" عندما كانت تقول الراتب برفقة والدي، تسبقه بكلمة: "بنشلّ الراتب" وبنشل كلمة حضرمية تنطق بمد الباء وتعني: سنبدأ بقوله، أو ترديده.. أذكر أنها تجلس في إحدى غرف المنزل، تكتفي بالضوء الخارجي -إن وجد- ولا تفتح ضوء هذه الغرفة، يكون الباب مفتوحًا.. وأسمع ترنيمًا حُلوًا. وتيرة صوت واحدة -هي وأبي- بصوت متوسط الارتفاع، لا يجد أمامه أي حاجز للوصول والاستقرار في القلب، شيء تغلب عليه الروحانية الصادقة.. هذا كل ما أذكره. لم تمنعني ذاكرتي من استحضار المصطلح حتى بعد سنوات عديدة من تلك الجلسات، أتذكره كنسمات هواءٍ وكشي لا يُمسك وإنما يُشعر به، فرغبتُ بأن أرجع قليلًا إلى الماضي، فكانت هذه المقالة.

______________

المراجع:

- الصوفية في حضرموت نشأتها أصولها أثارها (نقد وعرض)، أمين بن أحمد بن عبد الله السعدي، دار التوحيد للنشر: الرياض.

- جواهر تاريخ الأحقاف، محمد بن علي بن عوض باحنّان، دار المنهاج للنشر والتوزيع: جدة.

- تقاليد وعادات الحضارم، تويتر.